- رسالة من المهدي نقوس الى البروفيسور محمد عبدالرحمن يونس عميد جامعة ابن رشد بهولندا الرسالة الثانية
الاخ الكريم الصفي الحميم بهذا التصدير الجميل والمركز يستهل أبو بكر محمد بن عبد الملك بن محمد بن محمد القبسي الأندلسي - المعروف ابن طفيل، والمشهور لدى الغربيين بـــ ( أبو بكر ) - رسالته الفلسفية "حي بن يقظان" مخاطبا صديقا سابقا في الزمان، يمحضه الكرم والصفاء والجميمية، والعرفان ايضا، وهذا الأخ ليس بالأخير سوى الشيخ الرئيس، والذي يود لرسالته تلك أن تكون امتدادا للفكر السينوي وبعد أخي البروفيسور محمد عبد الرحمن يونس شكرا على رسالتك المفعمة بالمشاعر النبيلة والاحساس القوي بالحياة في شتى مناحيها والتي تختزل بعضا من معاناتك ونضالك الثقافي والفكري كاديب ومفكر ومربي وانسان استثنائي نذر حياته للعلم والمعرفة والجمال.. شدني عشقك للمقاهي وأفضيتها المسكونة بالضجيج والهشاشة والحركة والاحتمال.. حيث تتعايش الذوات وجوديا، تتلاءم الارواح ظرفيا وتفترق في وئام، مخلفة العديد من الأواصر والعلائق والذكريات العابرة، إذ في ولكل مدينة مقهاها أو في كل مكان منها مقاهي، مقهى باليما بالرباط مقهى الحافة بطنجة، مقهى الرماة بالجزائر، مقهى العالية بسيدي بوسعيد، مقهى الفيشاوي، وريش بالقاهرة، مقهى الزهاوي، والشابندر، وحسن عجمي، ومقهى البرازيل في دمشق انها مؤسسة ثقافية بامتياز، وهناك مقاه نالت شهرة عالمية بسبب ارتيادها من طرف الادباء غالبية الأجيال الشعرية والأدبية والفنية، كانت تلوذ بالمقهى ولا تزال، ولكل مقهى ذاكرة موشومة بالشعر والفن، المقاهي يا صديقي امتداد لحيواتنا في البيت، انها كتاب مفتوح نستشرف منه أخبار الناس وأحوال الدنيا ونناقش بها مشاكل العالم في رسالة من صديقي الشاعر والمسرحي العراقي عبد الكريم العامري مؤرخة في 20/05/2001 يقول فيها: (.... أعاني يا أخي من ضغط نفسي قاتل، وروتين مقيت، حيث تتأرجح حياتي ما بين البيت والمقهى صباح مساء، هكذا حيث دخان النارجيلات والسعال والصخب واللغط.. لا شيء جديد باستثناء هذا الروتين...) في حديثك عن النادل الفضولي لايفوتني الإشارة إلى النادل المقهى الذي كان يخدم سارتر وسيمون دو بوفوار في مقاهي الحي اللاتيني بباريس الذي أتت فضاء رواياته ومسرحياته.. "لنتأمل نادل المقهى بحركته المفعمة بالحيوية، والمركزة شيئا ما، والسريعة جدا، انه يتوجه نحو المستهلك بخطوات نشطة، ينحني بكثير من الاحترام، صوته، عيناه.. تعبران عن اهتمام كبير لتلبية طلب الزبون" من منا لم تبتلع المقهى ساعات من بياض يومه.. ولم تشتك كراسيه من كثرة الجلوس عليها كل النهار او لبعض الوقت.. هكذا يقتلع المرء أوقاتا من فائض زمانه يمضيه بين حيطان هذا المكان الأثير والحميمي في آن.. ويعقد صداقات وينسج علاقات مع أماكن معينة، وأشخاص غير معينين لم يكونوا في الحسبان، تفرضهم الضرورة عنوة. نقتسم وإياهم الهواء الملغوم بالدخان والفضاء المحنط بالثرثرة والمسكون بالأوهام والتهيؤات.. ويشكل بحميميته المفرطة وجحيمه القسري، علامة فارقة في حياة كل منا، حيث يتميز بأصناف مرتاديه، ومزيج زبنائه وتنوع نكهات مشروباته.. خليط فسيفسائي من كل جيل وطيف ومشرب وانتماء ومعتقد وذوق.. أدباء وفلاسفة وفنانون وبصاصون ولصوص ومحتالون وسماسرة وتجار وساسة ومخبرون ووسطاء ومقامرون وقوادون ونصابون، بعدد الأمكنة التي تنبع وتتوالد وتتناسل وتظهر كالفطر مستعمرة الحيز المجالي والمكاني وما يليهما. كيف يمكن لهذا المكان الضيق بما رحب الجمع بين كل هذا الشتات المتنافر، وهذه المتناقضات برمتها.. ولعل اكبر المذاهب الفلسفية والكتابات الأدبية والثورات في الفكر والفن انبثقت من هذا المكان، واكبر المؤامرات حيكت دسائسها ضمن أقباء هذا المحيط المزنر بالريبة والحيطة والحذر.. ولعل اكبر الأدباء تخرجوا من هذه المؤسسة الفريدة، وأشهر الساسة ولكل منهم ذكرياته الموغلة في الدهاء والمكر عقد صداقات لا ينفرط عقدها على مر العصور والأزمنة والحقب.. وعشرات الأمكنة الضيقة، حشرت ليس بأسمائها فقط، ولكن بجميع عوالمها الملغومة داخل أعمال و آثار إبداعية كثيرة ومتنوعة أخي الدكتور محمد عبد الرحمن يونس هكذا يأخذ الكتاب والروائيون بأيدينا ليطلعوننا بكل سحر الكلمة على سحر أمكنتها، وبغتة الفجاءة إلى مجالسها الحميمية، وأسرارها الدفينة، وإيحاءاتها الخبيئة التي لا تشبه بعضها، إن الإنسان ابن بيئته الاجتماعية ولا يمكنه بأية حال أن ينسلخ عنها، والتاريخ حقائق وأحداث ومراحل ودسائس وعلاقات أيضا، وقد تغير العالم يا صديقي العزيز وأصبحنا غرباء ومستلبين في مجتمعات استهلاكية تكتسح بماكينة الربح والخسارة كل شيء، وأضحت النفعية شعارا كبيرا. ونحن، واضحى هذا الوطن الذي يفرقنا أكثر مما يجمعنا، واسعا متشاكلا متشردما، احيانا تنتابني هواجس سخيفة وسوريالية مغرقة في تجريديتها، إذا أتصور وطنا عربيا متعددا بدويلا ته التي تطبعها الطائفية المرتزقة اللقيطة المصطنعة، وطوائفه المتوحشة الدموية التي ستفوق ولايات الولايات المتحدة الأمريكية.. ولن تبقى للايديولوجيا ولا الفكر التنويري أي دور وسط هذا الركام من الملل والصراعات العقدية الفارغة، والصخب الإعلامي المنافق، ولقد ابتأست وحزنت حينما سقطت قلاع الفكر الاشتراكي، وتراجع إلى الصفوف الخلفية بسبب زحف اليمين الإسلاموي الرجعي الذي عرف كيف يوحد صفوفه وينجح بأموال النفط في شراء ضمائر الناس، واستباحة دماء الأبرياء، حتى أصبح العربي بعبعا مخيفا يزرع الرعب أينما حل وارتحل.. ومكتوب علينا في هذه الظروف الصعبة الحالكة مواصلة الكفاح، في سبيل نشر مبادئ المحبة والتسامح، وزرع قيم التآخي والسلم والتعايش